سورة الرعد - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


{المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)}
اعلم أنا قد تكلمنا في هذه الألفاظ قال ابن عباس رضي الله عنهما معناه: أنا الله أعلم، وقال في رواية عطاء أنا الله الملك الرحمن، وقد أمالها أبو عمرو والكسائي وغيرهما وفخمها جماعة منهم عاصم وقوله: {تِلْكَ} إشارة إلى آيات السورة المسماة بالمر. ثم قال: إنها آيات الكتاب.
وهذا الكتاب الذي أعطاه محمداً بأن ينزله عليه ويجعله باقياً على وجه الدهر وقوله: {والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} مبتدأ وقوله: {الحق} خبره ومن الناس من تمسك بهذه الآية في نفي القياس فقال: الحكم المستنبط بالقياس غير نازل من عند الله وإلا لكان من لم يحكم به كافراً لقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون} [المائدة: 44] وبالإجماع لا يكفر فثبت أن الحكم المثبت بالقياس غير نازل من عند الله. وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون حقاً لأجل أن قوله: {والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق} يقتضي أنه لا حق إلا ما أنزله الله فكل ما لم ينزله الله وجب أن لا يكون حقاً، وإذا لم يكن حقاً وجب أن يكون باطلاً لقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} [يونس: 32] ومثبتو القياس يجيبون عنه بأن الحكم المثبت بالقياس نازل أيضاً من عند الله، لأنه لما أمر بالعمل بالقياس كان الحكم الذي دل عليه القياس نازلاً من عند الله. ولما ذكر تعالى أن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق بين أن أكثر الناس لا يؤمنون به على سبيل الزجر والتهديد.


{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)}
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن أكثر الناس لا يؤمنون ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيد والمعاد وهو هذه الآية وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف: الله مبتدأ والذي رفع السموات خبره بدليل قوله: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض} [الرعد: 3] ويجوز أن يكون الذي رفع السموات صفة وقوله: {يُدَبّرُ الامر يُفَصّلُ الآيات} خبراً بعد خبر، وقال الواحدي: العمد الأساطين وهو جمع عماد يقال عماد وعمد مثل إهاب وأهب، وقال الفراء: العمد والعمد جمع العمود مثل أديم وادم وادم، وقضيم وقضم وقضم، والعماد والعمود ما يعمد به الشيء، ومنه يقال: فلان عمد قومه إذا كانوا يعتمدونه فيما بينهم.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى استدل بأحوال السموات وبأحوال الشمس والقمر وبأحوال الأرض وبأحوال النبات، أما الاستدلال بأحوال السموات بغير عمد ترونها فالمعنى: أن هذه الأجسام العظيمة بقيت واقفة في الجو العالي ويستحيل أن يكون بقاؤها هناك لأعيانها ولذواتها لوجهين:
الأول: أن الأجسام متساوية في تمام الماهية، ولو وجب حصول جسم في حيز معين، لوجب حصول كل جسم في ذلك الحين.
والثاني: أن الخلاء لا نهاية له والأحياز المعترضة في ذلك الخلاء الصرف غير متناهية وهي بأسرها متساوية ولو وجب حصول جسم في حيز معين لوجب حصوله في جميع الأحياز ضرورة أن الأحياز بأسرها متشابهة فثبت أن حصول الأجرام الفلكية في أحيازها وجهاتها ليس أمراً واجباً لذاته بل لابد من مخصص ومرجح، ولا يجوز أن يقال إنها بقيت بسلسلة فوقها ولا عمد تحتها، وإلا لعاد الكلام في ذلك الحافظ ولزم المرور إلى ما لا نهاية له وهو محال فثبت أن يقال الأجرام الفلكية في أحيازها العالية لأجل أن مدبر العالم تعالى وتقدس أوقفها هناك. فهذا برهان قاهر على وجود الإله القاهر القادر. ويدل أيضاً على أن الإله ليس بجسم ولا مختص بحيز، لأنه لو كان حاصلاً في حيز معين لامتنع أن يكون حصوله في ذلك الحيز لذاته ولعينه لما بينا أن الأحياز بأسرها متساوية فيمتنع أن يكون حصوله في حيز معين لذاته فلابد وأن يكون بتخصيص مخصص وكل ما حصل بالفاعل المختار فهو محدث فاختصاصه بالحيز المعين محدث وذاته لا تنفك عن ذلك الاختصاص وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث، فثبت أنه لو كان حاصلاً في الحيز المعين لكان حادثاً وذلك محال، فثبت أنه تعالى متعال عن الحيز والجهة، وأيضاً كل ما سماك فهو سماء، فلو كان تعالى موجوداً في جهة فوق جهة لكان من جملة السموات فدخل تحت قوله: {الله الذي رَفَعَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} فكل ما كان مختصاً بجهة فوق جهة فهو محتاج إلى حفظ الإله بحكم هذه الآية فوجب أن يكون الإله منزهاً عن جهة فوق.
أما قوله: {تَرَوْنَهَا} ففيه أقوال: الأول: أنه كلام مستأنف والمعنى: رفع السموات بغير عمد. ثم قال: {تَرَوْنَهَا} أي وأنتم ترونها أي مرفوعة بلا عماد.
الثاني: قال الحسن في تقرير الآية تقديم وتأخير تقديره: رفع السموات ترونها بغير عمد.
واعلم أنه إذا أمكن حمل الكلام على ظاهره كان المصير إلى التقديم والتأخير غير جائز.
والثالث: أن قوله: {تَرَوْنَهَا} صفة للعمد، والمعنى: بغير عمد مرئية، أي للسموات عمد. ولكنا لا نراها قالوا: ولها عمد على جبل قاف وهو جبل من زبرجد محيط بالدنيا ولكنكم لا ترونها.
وهذا التأويل في غاية السقوط، لأنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام ليكون حجة على وجود الإله القادر ولو كان المراد ما ذكروه لما ثبتت الحجة لأنه يقال إن السموات لما كانت مستقرة على جبل قاف فأي دلالة لثبوتها على وجود الإله، وعندي فيه وجه آخر أحسن من الكل وهو أن العماد ما يعتمد عليه وقد دللنا على أن هذه الأجسام إنما بقيت واقفة في الجو العالي بقدرة الله تعالى وحينئذ يكون عمدها هو قدرة الله تعالى فنتج أن يقال إنه رفع السماء بغير عمد ترونها أي لها عمد في الحقيقة إلا أن تلك العمد هي قدرة الله تعالى وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الجو العالي وأنهم لا يرون ذلك التدبير ولا يعرفون كيفية ذلك الإمساك.
وأما قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} فاعلم أنه ليس المراد منه كونه مستقراً على العرش، لأن المقصود من هذه الآية ذكر ما يدل على وجود الصانع ويجب أن يكون ذلك الشيء مشاهداً معلوماً وأن أحداً ما رأى أنه تعالى استقر على العرش فكيف يمكن الاستدلال به عليه وأيضاً بتقدير أن يشاهد كونه مستقراً على العرش إلا أن ذلك لا يشعر بكمال حاله وغاية جلاله، بل يدل على احتياجه إلى المكان والحيز. وأيضاً فهذا يدل على أنه ما كان بهذه الحالة ثم صار بهذه الحالة، وذلك يوجب التغير وأيضاً الاستواء ضد الاعوجاج فظاهر الآية يدل على أنه كان معوجاً مضطرباً ثم صار مستوياً وكل ذلك على الله محال، فثبت أن المراد استواؤه على عالم الأجسام بالقهر والقدرة والتدبير والحفظ يعني أن من فوق العرش إلى ما تحت الثرى في حفظه وفي تدبيره وفي الاحتياج إليه.
وأما الاستدلال بأحوال الشمس والقمر: فهو قوله سبحانه وتعالى: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى}.
واعلم أن هذا الكلام اشتمل على نوعين من الدلالة:
النوع الأول: قوله: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} وحاصله يرجع إلى الاستدلال على وجود الصانع القادر القاهر بحركات هذه الأجرام، وذلك لأن الأجسام متماثلة فهذه الأجرام قابلة للحركة والسكون فاختصاصها بالحركة الدائمة دون السكون لابد له من مخصص. وأيضاً أن كل واحدة من تلك الحركات مختصة بكيفية معينة من البطء والسرعة فلابد أيضاً من مخصص لا سيما عند من يقول الحركة البطيئة معناها حركات مخلوطة بسكنات وهذا يوجب الاعتراف بأنها تتحرك في بعض الأحياز وتسكن في البعض فحصول الحركة في ذلك الحيز المعين والسكون في الحيز الآخر لابد فيه أيضاً من مرجح.
الوجه الثالث: وهو أن تقدير تلك الحركات والسكنات بمقادير مخصوصة على وجه تحصل عوداتها وأدوارها متساوية بحسب المدة حالة عجيبة فلابد من مقدر.
والوجه الرابع: أن بعض تلك الحركات مشرقية وبعضها مغربية وبعضها مائلة إلى الشمال وبعضها مائلة إلى الجنوب وهذا أيضاً لا يتم إلا بتدبير كامل وحكمة بالغة.
النوع الثاني: من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله: {كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى} وفيه قولان: الأول: قال ابن عباس: للشمس مائة وثمانون منزلاً كل يوم لها منزل وذلك يتم في ستة أشهر، ثم إنها تعود مرة أخرى إلى واحد منها في ستة أشهر أخرى وكذلك القمر له ثمانية وعشرون منزلاً، فالمراد بقوله: {كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى} هذا. وتحقيقه أنه تعالى قدر لكل واحد من هذه الكواكب سيراً خاصاً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يكون لها بحسب كل لحظة ولمحة حالة أخرى ما كانت حاصلة قبل ذلك.
والقول الثاني: أن المراد كونهما متحركين إلى يوم القيامة، وعند مجيء ذلك اليوم تنقطع هذه الحركات وتبطل تلك السيرات كما وصف الله تعالى ذلك في قوله: {إِذَا الشمس كُوّرَتْ * وَإِذَا النجوم انكدرت} [التكوير: 1، 2] {إِذَا السماء انشقت} [الإنشقاق: 1] و{إِذَا السماء انفطرت} [الإنفطار: 1] {وجَمَعَ الشمس والقمر} [القيامة: 9] وهو كقوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} [الأنعام: 2] ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل قال: {يُدَبّرُ الأمر} وكل واحد من المفسرين حمل هذا على تدبير نوع آخر من أحوال العالم والأولى حمله على الكل فهو يدبرهم بالإيجاد والإعدام وبالإحياء والإماتة والإغناء والإفقار، ويدخل فيه إنزال الوحي وبعثة الرسل وتكليف العباد، وفيه دليل عجيب على كمال القدرة والرحمة وذلك لأن هذا العالم المعلوم من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى أنواع وأجناس لا يحيط بها إلا الله تعالى، والدليل المذكور دل على أن اختصاص كل واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وحليته، ليس إلا من الله تعالى ومن المعلوم أن كل من اشتغل بتدبير شيء فإنه لا يمكنه شيء آخر إلا الباري سبحانه وتعالى فإنه لا يشغله شأن عن شأن أما العاقل فإنه إذا تأمل في هذه الآية علم أنه تعالى يدبر عالم الأجسام وعالم الأرواح ويدبر الكبير كما يدبر الصغير فلا يشغله شأن عن شأن ولا يمنعه تدبير عن تدبير وذلك يدل على أنه تعالى في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته غير مشابه للمحدثات والممكنات.
ثم قال: {يُفَصّلُ الآيات} وفيه قولان: الأول: أنه تعالى بين الآيات الدالة على إلهيته وعلمه وحكمته.
والثاني: أن الدلائل الدالة على وجود الصانع قسمان: أحدهما: الموجودات الباقية الدائمة كالأفلاك والشمس والقمر والكواكب، وهذا النوع من الدلائل هو الذي تقدم ذكره.
والثاني: الموجودات الحادثة المتغيرة، وهي الموت بعد الحياة، والفقر بعد الغنى، والهرم بعد الصحة، وكون الأحمق في أهنأ العيش، والعاقل الذكي في أشد الأحوال، فهذا النوع من الموجودات والأحوال دلالتها على وجود الصانع الحكيم ظاهرة باهرة. وقوله: {يُفَصّلُ الآيات} إشارة إلى أنه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التمييز والتفصيل.
ثم قال: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ تُوقِنُونَ} واعلم أن الدلائل المذكورة كما تدل على وجود الصانع الحكيم فهي أيضاً تدل على صحة القول بالحشر والنشر لأن من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها على عظمتها وكثرتها فلأن يقدر على الحشر والنشر كان أولى يروى أن رجلاً قال لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه أنه تعالى كيف يحاسب الخلق دفعة واحدة فقال كما يرزقهم الآن دفعة واحدة وكما يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة. وحاصل الكلام أنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية والنيرات الكوكبية في الجو العالي وإن كان الخلق عاجزين عنه، وكما يمكنه أن يدبر من فوق العرش إلى ما تحت الثرى بحيث لا يشغله شأن عن شأن، فكذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن، ومن الأصحاب من تمسك بلفظ اللقاء على رؤية الله تعالى، وقد مر تقريره في هذا الكتاب مراراً وأطواراً.


{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)}
اعلم أنه تعالى لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية فقال: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض}.
واعلم أن الاستدلال بخلقه الأرض وأحوالها من وجوه:
الأول: أن الشيء إذا تزايد حجمه ومقداره صار كأن ذلك الحجم وذلك المقدار يمتد فقوله: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض} إشارة إلى أن الله سبحانه هو الذي جعل الأرض مختصة بذلك المقدار المعين الحاصل له لا أزيد ولا أنقص والدليل عليه أن كون الأرض أزيد مقداراً مما هو الآن وأنقص منه أمر جائز ممكن في نفسه فاختصاصه بذلك المقدار المعين لابد أن يكون بتخصيص وتقدير.
الثاني: قال أبو بكر الأصم المد هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه فقوله: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض} يشعر بأنه تعالى جعل حجم الأرض حجماً عظيماً لا يقع البصر على منتهاه، لأن الأرض لو كانت أصغر حجماً مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به.
والثالث: قال قوم كانت الأرض مدورة فمدها ودحا من مكة من تحت البيت فذهبت كذا وكذا.
وقال آخرون: كانت مجتمعة عند البيت المقدس فقال لها: اذهبي كذا وكذا.
اعلم أن هذا القول إنما يتم إذا قلنا الأرض مسطحة لا كرة وأصحاب هذا القول احتجوا عليه بقوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} [النازعات: 30] وهذا القول مشكل من وجهين:
الأول: أنه ثبت بالدلائل أن الأرض كرة فكيف يمكن المكابرة فيه؟
فإن قالوا: وقوله: {مَدَّ الأرض} ينافي كونها كرة فكيف يمكن مدها؟
قلنا: لا نسلم أن الأرض جسم عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح، والتفاوت الحاصل بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله ألا ترى أنه قال: {والجبال أَوْتَاداً} [النبأ: 7] فجعلها أوتاداً مع أن العالم من الناس يستقرون عليها فكذلك هاهنا.
والثاني: أن هذه الآية إنما ذكرت ليستدل بها على وجود الصانع، والشرط فيه أن يكون ذلك أمراً مشاهداً معلوماً حتى يصح الاستدلال به على وجود الصانع وكونها مجتمعة تحت البيت أمر غير مشاهد ولا محسوس فلا يمكن الاستدلال به على وجود الصانع، فثبت أن التأويل الحق هو ما ذكرناه.
والنوع الثاني: من الدلائل الاستدلال بأحوال الجبال وإليه الإشارة بقوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} من فوقها ثابتة باقية في أحيازها غير منتقلة عن أماكنها يقال: رسا هذا الوتد وأرسيته والمراد ما ذكرنا.
واعلم أن الاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم من وجوه، الأول: أن طبيعة الأرض واحدة فحصول الجبل في بعض جوانبها دون البعض لابد وأن يكون بتخليق القادر الحكيم.
قالت الفلاسفة: هذه الجبال إنما تولدت لأن البحار كانت في هذا الجانب من العالم فكانت تتولد في البحر طيناً لزجاً. ثم يقوي تأثير الشمس فيها فينقلب حجراً كما يشاهد في كوز الفقاع ثم إن الماء كان يغور ويقل فيتحجر البقية، فلهذا السبب تولدت هذه الجبال قالوا: وإنما كانت البحار حاصلة في هذا الجانب من العالم لأن أوج الشمس وحضيضها متحركان، ففي الدهر الأقدم كان حضيض الشمس في جانب الشمال والشمس متى كانت في حضيضها كانت أقرب إلى الأرض فكان التسخين أقوى، وشدة السخونة توجب انجذاب الرطوبات، فحين كان الحضيض في جانب الشمال كانت البحار في جانب الشمال، والآن لما انتقل الأوج إلى جانب الشمال والحضيض إلى جانب الجنوب انتقلت البحار إلى جانب الجنوب فبقيت هذه الجبال في جانب الشمال، هذا حاصل كلام القوم في هذا الباب وهو ضعيف من وجوه:
الأول: أن حصول الطين في البحر أمر عام ووقوع الشمس عليها أمر عام فلم وصل هذا الجبل في بعض الجوانب دون البعض.
والثاني: وهو أنا نشاهد في بعض الجبال كأن تلك الأحجار موضوعة سافا فسافاً فكأن البناء لبنات كثيرة موضوع بعضها على بعض ويبعد حصول مثل هذا التركيب من السبب الذي ذكروه.
والثالث: أن أوج الشمس الآن قريب من أول السرطان فعلى هذا من الوقت الذي انتقل أوج الشمس إلى الجانب الشمالي مضى قريب من تسعة آلاف سنة، وبهذا التقدير أن الجبال في هذه المدة الطويلة كانت في التفتت فوجب أن لا يبقى من الأحجار شيء، لكن ليس الأمر كذلك، فعلمنا أن السبب الذي ذكروه ضعيف.
والوجه الثاني: من الاستدلال بأحوال الجبال على وجود الصانع ذي الجلال ما يحصل فيها من معادن الفلزات السبعة ومواضع الجواهر النفيسة وقد يحصل فيها معادن الزاجات والأملاح وقد يحصل فيها معادن النفط والقير والكبريت، فكون الأرض واحدة في الطبيعة، وكون الجبل واحداً في الطبع، وكون تأثير الشمس واحداً في الكل يدل دليلاً ظاهراً على أن الكل بتقدير قادر قاهر متعال عن مشابهة المحدثات والممكنات.
والوجه الثالث: من الاستدلال بأحوال الجبال أن بسببها تتولد الأنهار على وجه الأرض، وذلك أن الحجر جسم صلب فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض ووصلت إلى الجبل احتبست هناك فلا تزال تتكامل، فيحصل تحت الجبل مياه عظيمة، ثم إنها لكثرتها وقوتها تثقب وتخرج وتسيل على وجه الأرض، فمنفعة الجبال في تولد الأنهار هو من هذا الوجه، ولهذا السبب ففي أكثر الأمر أينما ذكر الله الجبال قرن بها ذكر الأنهار مثل ما في هذه الآية، ومثل قوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شامخات وأسقيناكم مَّاء فُرَاتاً} [المرسلات: 27].
والنوع الثالث: من الدلائل المذكورة في هذه الآية الاستدلال بعجائب خلقة النبات، وإليه الإشارة بقوله: {وَمِن كُلّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أن الحبة إذا وضعت في الأرض وأثرت فيها نداوة الأرض ربت وكبرت وبسبب ذلك ينشق أعلاها وأسفلها فيخرج من الشق الأعلى الشجرة الصاعدة في الهواء، ويخرج من الشق الأسفل العروق الغائصة في أسفل الأرض وهذا من العجائب، لأن طبيعة تلك الحبة واحدة وتأثير الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد ثم إنه خرج من الجانب الأعلى من تلك الحبة جرم صاعد إلى الهواء من الجانب الأسفل منه جرم غائص في الأرض، ومن المحال أن يتولد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان، فعلمنا أن ذلك إنما كان بسبب تدبير المدبر الحكيم، والمقدر القديم لا بسبب الطبع والخاصية، ثم إن الشجرة الثابتة من تلك الحبة بعضها يكون خشباً وبعضها يكون نوراً وبعضها يكون ثمرة، ثم إن تلك الثمرة أيضاً يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع، فالجوز له أربعة أنواع من القشور، فالقشر الأعلى وتحته القشرة الخشبة وتحته القشرة المحيطة باللبنة، وتحت تلك القشرة قشرة أخرى في غاية الرقة تمتاز عما فوقها حال كون الجوز رطباً وأيضاً فقد يحصل في الثمرة الواحدة الطباع المختلفة، فالأترج قشره حار يابس ولحمه حار رطب وحماضه بارد يابس وبزره حار يابس ونوره حار يابس، وكذلك العنب قشره وعجمه باردان يابسان ولحمه وماؤه حاران رطبان فتولد هذه للطبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوي تأثيرات الطبائع وتأثيرات الأنجم والأفلاك لابد وأن يكون لأجل تدبير الحكيم القادر القديم.
المسألة الثانية: المراد بزوجين اثنين، صنفين اثنين والاختلاف إما من حيث الطعم كالحلو والحامض أو الطبيعة كالحار والبارد أو اللون كالأبيض والأسود.
فإن قيل: الزوجان لابد وأن يكون اثنين، فما الفائدة في قوله: {زَوْجَيْنِ اثنين}.
قلنا: قيل إنه تعالى أول ما خلق العالم وخلق فيه الأشجار خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط، فلو قال: خلق زوجين لم يعلم أن المراد النوع أو الشخص.
أما لما قال اثنين علمنا أن الله تعالى أول ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد. والحاصل أن الناس فيهم الآن كثرة إلا أنهم لما ابتدؤا من زوجين اثنين بالشخص هما آدم وحواء، فكذلك القول في جميع الأشجار والزرع، والله أعلم.
النوع الرابع: من الدلائل المذكورة في هذه الآية الاستدلال بأحوال الليل والنهار وإليه الإشارة بقوله: {يغشي الليل النهار} والمقصود أن الإنعام لا يكمل إلا بالليل والنهار وتعاقبهما كما قال: {فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل وَجَعَلْنَا ءايَةَ النهار مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] ومنه قوله: {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً} [الأعراف: 54] وقد سبق الاستقصاء في تقريره فيما سلف من هذا الكتاب، قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: {يُغْشِى} بالتشديد وفتح الغين والباقون بالتخفيف، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل النيرة والقواطع القاهرة قال: {إِنَّ فِي ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
واعلم أنه تعالى في أكثر الأمر حيث يذكر الدلائل الموجودة في العالم السفلي يذكر عقبها: {إِنَّ فِي ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أو ما يقرب منه بحسب المعنى، والسبب فيه أن الفلاسفة يسندون حوادث العالم السفلي إلى الاختلافات الواقعة في الأشكال الكوكبية، فما لم تقم الدلالة على دفع هذا السؤال لا يتم المقصود، فلهذا المعنى قال: {إِنَّ فِي ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} كأنه تعالى يقول مجال الفكر باق بعد ولا بد بعد هذا المقام من التفكر والتأمل ليتم الاستدلال.
واعلم أن الجواب عن هذا السؤال من وجهين:
الأول: أن نقول هب أنكم أسندتم حوادث العالم السفلي إلى الأحوال الفلكية والاتصالات الكوكبية إلا أنا أقمنا الدليل القاطع على أن اختصاص كل واحد من الأجرام الفلكية وطبعه ووضعه وخاصيته لابد أن يكون بتخصيص المقدر القديم والمدبر الحكيم، فقد سقط هذا السؤال وهذا الجواب قد قرره الله تعالى في هذا المقام، لأنه تعالى ابتدأ بذكر الدلائل السماوية وقد بينا أنها كيف تدل على وجود الصانع. ثم إنه تعالى أتبعها بالدلائل الأرضية.
فإن قال قائل: لم لا يجوز أن تكون هذه الحوادث الأرضية لأجل الأحوال الفلكية، كان جوابنا أن نقول فهب أن الأمر كذلك إلا أنا دللنا فيما تقدم على افتقار الأجرام الفلكية إلى الصانع الحكيم فحينئذ لا يكون هذا السؤال قادحاً في غرضنا.
والوجه الثاني: من الجواب أن نقيم الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث السفلية لأجل الاتصالات الفلكية، وذلك هو المذكور في الآية التي تأتي بعد هذه الآية، ومن تأمل في هذه اللطائف ووقف عليها علم أن هذا الكتاب اشتمل على علوم الأولين والآخرين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8